زكاة الفطر النقد أنفع للفقير من الأرز
تم النشر في السبت 2020-05-16
د. صالح بن عبدالعزيز العبداللطيف
الغاية الإنسانية النبيلة من فرض زكاة الفطر إدخال السرور على الفقراء وأطفالهم يوم العيد حتى يكون الفرح عاماً لكل فئات المجتمع، وحتى لا يضطروا إلى استجداء حاجاتهم وحاجات من يعولون في ذلك اليوم البهيج، وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلك الغاية بقوله: «أغنوهم عن المسألة في يوم عيدهم». ومقدارها -كما هو معروف صاع من غالب قوت البلد الذي كان في الأزمنة الماضية قمحاً أو شعيراً أو تمراً أو أقطاً أو زبيباً، أما في الوقت الحاضر فهو الأرز في بلادنا. وفي ظل اقتصاد مزدهر قوي لا يمكن القول إن إغناء الفقراء في يوم العيد وهو الهدف السامي من فرضها قد تحقق فعلاً، فلم يعد الفقير عندنا يتلهف على كمية محدودة نيئة من الأرز. وقبل الخوض في الموضوع لابد من استحضار قاعدة أصولية عظيمة ينتج عن تعطيلها وعدم الإفادة منها الكثير من العنت والمشقة على المسلمين، ويسبب الجمود في مجابهة القضايا التي تستجد في كل عصر، وهي التي تنص على أن «الحكم الشرعي يدور مع العلة وجوداً وعدماً». وكذلك الإشارة إلى ما تحمله الأخرى من الرفق بالناس ومراعاة أحوالهم وهي التي تقول: «حيثما كانت مصلحة الناس فثم شرع الله» ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة المثلى في تطبيق ذلك والرفق بالناس، وتجلى ذلك في عدة أمور منها على سبيل المثال جملته المشهورة «إفعل ولا حرج» عندما حج حجته الوحيدة والمسماة حجة الوداع حينما تكاثر عليه الناس يستفتونه في مناسك الحج كالرمي والحلق والذبح وغيرها وأيها يكون قبل الآخر، كما تجلى ذلك عندما تراجع صلى الله عليه وسلم عن أمره للناس بعدم تأبير (تلقيح) النخل بعد أن تبين له أن التأبير أمر أساس للنخل لا غنى عنه وأخبرهم بكل سماحة وطيب نفس أنهم أعلم بأمور دنياهم.
ومعاذ الله أن ندعو في هذا المجال أي مجتهد منفرد لتطبيق تلك القواعد الجليلة على هواه وتفسيرها، بل إن تطبيقها والأخذ بها موقوف على الراسخين في العلم والهيئات والمجامع الإسلامية ذات الشأن والقبول من الأمة. ولنعد إلى الموضوع فما دام ان «الإغناء» للفقراء يوم العيد لا يتحقق بمنحهم حفنات من الأرز لا يرغبون فيها، فما المانع من دفع قيمة زكاة الفطر نقداً لهم لأنهم أعلم باحتياجاتهم، ونحن هنا لا نأتي بجديد، لأن أحد المذاهب السنية الأربعة المشهورة وهو المذهب الحنفي وعلى رأسه مؤسسه الجليل أبو حنيفة النعمان وعدد من التابعين وعلماء المالكية يضيق المجال عن إيراد أسمائهم وعلماء الأزهر أجازوا ذلك.
بل إن ذلك يمتد ويشمل نفراً من علمائنا ولكنهم لا يجهرون بذلك مراعاة للتيار العام السائد، والكاتب يدرك مسبقاً الاعتراض الجاهز على هذا الرأي بحجة أن زكاة الفطر كانت تخرج في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من الأعيان (الطعام) وليس على هيئة النقد مع وجود النقد حينذاك، ويمكن الرد على هذه الحجة بالإشارة إلى أن الأحوال المعيشية في تلك الأزمنة كانت صعبة إلى حد ما والنقد لا يتوافر لدى عامة المزكين إلا بشكل محدود، كما أن احتياجات الناس كانت محدودة، وهذا كله جعل الفقراء حينها يتلهفون على زكاة الفطر طعاماً، أما الآن فالأمر عكس ذلك تماماً في بلادنا وفي دول الخليج العربي وفي دول إسلامية أخرى، وعلى أي حال فإن إخراجها نقدا له فوائد عديدة، من أجل مساعدة الفقراء وإظهار الوجه الإنساني النبيل للإسلام، كما أن إخراجها نقداً وإيكال ذلك إلى المؤسسات والجمعيات الخيرية التي تعرف المستحقين لها فعلاً سيسهل من عملية استقبالها من المزكين عبر كوبونات تباع لهم (تشبه كوبونات الهدي والأضاحي) وقيمة كل كوبون 25 ريالاً وهو متوسط قيمة زكاة الفطر الواحدة، كما سيسهل بالطبع عملية توزيعها على المستحقين وفيما يلي أهم الفوائد الناجمة عن ذلك:
إخراجها نقداً يسهل الإفادة والتحكم في مبلغ ضخم يصل إلى حوالي 800 مليون ريال في التقدير المتحفظ يصرف عليها في بلادنا، يذهب الكثير منه سدى على حساب الفقراء المستحقين لزكاة الفطر فعلاً، وللإيضاح زكاة الفطر واجبة على كل مسلم ومن يعول ومن يخدمه فيما عدا الفقراء فقاعدة الواجبة عليهم أكبر بكثير من قاعدة الزكاة المعروفة التي لا تجب إلا عند توفر نصاب معين ومرور الحول عليه، إضافة الى أن زكاة الفطر لا يجوز إخراجها من البلد الذي وجبت فيه إلا بانعدام الفقراء بعكس الزكاة التي يجوز إخراجها ولكن بضوابط محددة، والرقم المذكور (800 مليون) ليس من عند الكاتب بل مبني ومستنبط من 600 مليون ريال وهو رقم ذكره اقتصادي معروف وعضو جمعية الاقتصاد السعودي الأستاذ عصام خليفة منذ ست سنوات (الرياض الاقتصادي 28-9-1435هـ) وبطبيعة الحال يتضخم الرقم المذكور سنة بعد سنة إلى ما يقدر بـ 800 مليون الآن، وهو رقم كفيل بإدخال البهجة والفرح على عدد كبير جداً من فقراء المملكة في أعياد الفطر وبخاصة المتعففون منهم الذين يحرمون منها بسبب انقضاض محترفي التسول عليها، ولو افترضنا جدلاً أنه يوجد 2 مليون أسرة سعودية تستحق الزكاة، سيتبين لنا أن كل أسرة ستحصل على 400 ريال وهي أجمل عيدية لهم بدلاً من عبوات أرز نفعها في ظروف العيد محدود جداً.
إخراجها نقداً يتيح للفقراء، الاستغناء «في يوم العيد وهو السبب في فرضها، والعمل بمقتضى القاعدة الأصولية الإنسانية الجليلة، المذكورة «الحكم الشرعي يدور مع العلة وجوداً وعدماً» ولن يتحقق الإغناء كما ذكر بكميات من الأرز لا يرغب فيها الفقير، أولا يرغب في النوعيات المدفوعة إليه، أو لا يمثل الأرز الوجبة الرئيسية له، وعند استحضار الغاية من فرض زكاة الفطر وكذلك القاعدة الأصولية المذكورة يتضح أن إخراجها عيناً (طعاماً) في هذا العصر وفي الظروف الاقتصادية المزدهرة ولله الحمد التي تمر بها بلادنا ربما كان فيه -والله أعلم- شيء من التقصير حيال أولئك الفقراء لأننا ربما تشددنا على حساب الغاية والهدف الأسمى منها.
إخراجها نقداً وتحديد أسماء المستحقين لها بالفعل عن طريق المؤسسات والجمعيات الخيرية يضمن وصولها إلى أكبر عدد من المستحقين لها فعلاً بدلاً من محترفي التسول من الداخل والخارج الذين يرابطون بشكل مكثف ليلة العيد وما قبلها في الأماكن التي توزع فيها كالمباسط والأسواق والتجمعات وحول الجوامع ومواقع الجمعيات الخيرية، ولا يكتفي الواحد منهم بأخذها مرة واحدة بل يتنافس مع أقرانه للحصول على أكبر عدد ممكن من الزكوات الموزعة.
القضاء على ظاهرة «تدوير» زكاة الفطر الذي يؤدي إلى تآكل قيمتها المادية على حساب الفقراء، لأن المشاهد الآن أن عدداً كبيراً من الكسالى ما إن يعلم بحلول يوم العيد حتى يخرج بجلابيته أو بيجامته مسرعاً إلى أحد المباسط المنتشرة في الشوارع فيشتري زكاته وبدلاً من أن يسلمها إلى إحدى الجمعيات الخيرية يدفعها دونما تحر إلى محترفي التسول المتجمعين عند كل مبسط وكأنه تخلص من حمل ثقيل، وما أن يغادر المكان حتى تباع بثمن بخس إلى صاحب المبسط، وتتكرر عملية البيع عدة مرات، وغالبا ما يتم ذلك عن طريق العمالة الأجنبية غير النظامية.
القضاء على ظاهرة الغش الذي تزاوله بعض العمالة الأجنبية التي تخلط الجيد من أنواع الأرز بالرديء، وتعبئ أحياناً الأنواع الرديئة في العبوات (الأكياس) المخصصة للأنواع الجيدة ذات الشهرة المعروفة والمرغوبة من قبل المستهلكين، ولا يكتشف هذا الغش حينها، وأين هو المزكي الذي يفتح العبوات ويفتشها تفتيشاً دقيقاً، وعنده الاستعداد لقضاء وقت طويل في سبيل ذلك.
القضاء على الأعباء والتكاليف العديدة المرهقة التي يتحملها تطوعاً القائمون على المؤسسات والجمعيات الخيرية والمتمثلة في استقبال كميات ضخمة من الأرز وتوزيعها، وما يقتضي ذلك من إعداد مخازن لها وسيارات وعمالة ومشرفين وخلافها في وقت محدد لا يتجاوز الليلتين قبل صلاة العيد، وأحيانا لا يتمكنون من إخراجها وإيصالها للمستحقين في الوقت المحدد لذلك لأن الكثرة تغلب الشجاعة وهو ما أشار إليه سماحة مفتي عام المملكة في مقابلة معه (الشرق الأوسط 6-9-2010م ص 31).
– القضاء على حالات الاستنفار والزحام الشديدين في الأسواق والطرقات ليلة العيد والمتمثلة في خروج الناس زرافات ووحدانا لشراء زكاة الفطر ثم توزيعها كيفما اتفق، أو حملها وإيداعها لدى الجمعيات الخيرية لأن شراء زكاة الفطر بواسطة الكوبونات بداية من اليوم الأول لشهر رمضان يريح المزكين ويوفر عليهم الكثير من الجهد والقلق، ولا حرج عليهم في ذلك إذ المهم شرعاً توقيت إخراجها قبل صلاة العيد من قبل تلك الجمعيات وليس توقيت شرائها.
– القضاء على استنزاف مالي ضخم والمتمثل في خروج حوالي 800 مليون ريال إلى الخارج في وقت واحد لشراء آلاف الأطنان من الأرز، وعدم تعريض المخزون الاستراتيجي لسلعة غذائية رئيسية في بلادنا للخطر، أو التسبب في ارتفاع أسعارها عند طلب تلك الكميات الضخمة تبعاً لقانون العرض والطلب وبخاصة في حالات الجدب والجفاف التي تجتاح الدول المنتجة لها بين فينة وأخرى حسب سنن مدبر الكون للسنين السمان والسنين العجاف، والخلاصة أن باب الاجتهاد ينبغي أن يكون مفتوحاً إلى يوم القيامة وفقاً لقاعدة «تغير الفتوى بتغير الزمان»، وهي ليست على إطلاقها، وكذلك قاعدة «الحكم الشرعي يدور مع العلة وجوداً وعدماً»، وبالطبع لا يشمل ذلك القطعيات من الأحكام، ومن أحسن الأمثلة على تطبيق ذلك ما قام به الخليفة الراشد المسدد عمر رضي الله عنه من إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم مع وجود ذلك في القرآن الكريم لأن الإسلام عز ولم يعد بحاجة لهم، والإمام الشافعي رحمه الله الذي جدد ونقح الكثير من مسائل مذهبه بعد انتقاله إلى مصر، وكم هو عظيم ذلك العالم الأندلسي الذي أفتى الحاكم بوجوب صومه شهرين متتابعين كفارة لجماعه في نهار رمضان مع أنه يعلم أن الحكم الشرعي يبدأ بإعتاق رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، وكانت حجته في هذه الفتوى أن الحاكم يملك الكثير من الرقاب، وسهل عليه جداً إعتاق أحدها، وربما عاد إلى فعلته واستهتاره مرة ومرات، ولذلك لا شيء يردعه مثل صوم شهرين متتابعين، ومثل ذلك في شجاعة الاجتهاد المشروع الفتوى المشهورة للشيخ أحمد بن محمد القصير رحمه الله (ت 1124هـ) لأهل أشيقر بالفطر في رمضان ثم القضاء من أجل أن يحصدوا زروعهم التي نضجت حينها في عام 1107هـ بعد أن علم أن عدواً في طريقه لمحاصرة البلدة وأنه سيستولي على محاصيلهم أو سيحرقها لا محالة، وفي هذا ضياع لكدهم وشقائهم العام كله، والأمثلة في ذلك أكثر من أن تحصى.
وأخيراً فإنه لا جدال في أن إخراج زكاة الفطر طعاماً أفضل إذا أغنت الفقراء يوم العيد في أزمنة الجوع والمجاعات والأحوال الاقتصادية السيئة كما هو الحال الآن في بعض الدول العربية والأفريقية، بل كما كان ذلك في بلادنا في الماضي البعيد، فعلى سبيل المثال كان هناك «اللاعي»وهو الرجل الذي يخرج في قرى نجد في وسط الليل ويصيح «يا مامن الجوع» كي يسمعه الناس فيسدوا رمقه، ويبدو أن سمعة جوع نجد قد عبرت الحدود، فقد عثر أخيراً على فتوى من قبل علماء في الصومال قبل قرن من الزمن تجيز صرف بعض زكاة الصوماليين على فقراء نجد، وكذلك ما أخبرني به أحد الزملاء الأكاديميين من أن جدته حينما كانت في الزبير (في العراق) كانت حينما تريد الدعاء على أحد تقول له «عساك بجوع نجد» فسبحان مغير الأحوال {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس} (140) سورة آل عمران، وأدام علينا نعمه ظاهرة وباطنة ورزقنا شكرها، أما الآن فلا جدال أيضاً أن إخراجها طعاماً لا تغني الفقراء يوم العيد في بلادنا الآن وفي البلدان الغنية الأخرى فلماذا لا تخرج نقداً إذا كان هذا بالتأكيد الخيار المفضل للفقراء، وبالمناسبة، هناك كناية لطيفة لدى العامة تقول «حط بينك وبين النار مطوع» وفحواها أنه لا ينبغي للمرء العادي أن يفتي لنفسه، بل عليه التماس الفتوى من أحد المؤهلين لها حتى يتحمل نتيجة إفتائه، فإذا أقدمنا في هذه القضية على إخراج زكاة الفطر نقداً نكون تبعاً لكلام العامة في نجد قد وضعنا الإمام أبا حنيفة وكافة أتباع مذهبه وكثيراً من علماء المسلمين الذي يجيزون ذلك بيننا وبين النار!
وبعد، فلا ريب أن غلق باب الاجتهاد المنضبط وتطبيق أحكام الإسلام بشكل آلي دونما تفكير في الغايات، وخلط ذلك أحياناً بالعادات والتقاليد نتج عنه الجمود الذي أصابنا في العالم الإسلامي، وما مثل المسلمين في ذلك إلا كمثل البستاني الساذج الذي «برمج» ذهنه على سقي حديقة في أيام معينة من الأسبوع دونما تفكير في أسباب السقيا، والاستمرار على ذلك حتى لو هطل في أحد الأيام المحددة للسقيا طوفان من المطر، أو بعض خطباء الجمعة في بعض دول العالم الإسلامي، منذ نحو قرن الذي كانوا يدعون للخليفة العثماني، مدة طويلة رغم سقوط الخلافة العثمانية لأنهم كانوا يقرؤون خطب جمعة جاهزة يرددونها آلياً دونما إعمال فكر في مضامينها. وختاماً، إذا كان مقترح إخراج زكاة الفطر نقداً في بلادنا في ظل الظروف الاقتصادية المزدهرة الآن لا يقبله ولا يتحمله البعض، هناك مقترح مخفف آخر وهو أن تنظم وتتولى الجمعيات الخيرية إصدار كوبونات قيمة الكوبون الواحد 25 ريالا وهو زكاة الفرد الواحد وتوزع على الفقراء وتصرف في أي بقالة أو سوق مركزي، على أن يقتصر صرفها على أي مادة غذائية يحتاجها الفقير مثل اللحم أو المكرونة أو الدقيق أو الزيت أو السكر وغيرها فكلها طعام وألا يقتصر ذلك على الأرز فقط، وبهذا يتحقق إخراجها طعاماً لا نقداً، ويتحقق إغناء الفقراء.
وبالمناسبة، فقد سعدت حينما أخبرني أحد الفضلاء أنه تعود على دفع زكاة الفطر لفقراء يعرفهم، وأنه خيرهم بين دفعها لهم أرزاً أو نقوداً فاختاروا النقود ففعل، أو ما قرأته في مجلة الأزهر (شوال 1439هـ) أن الأزهر ودار الإفتاء قد اتفقا على أن مقدار زكاة الفطر قد تحدد نقداً بـ13جنيهاً مصرياً كحد أدنى للفرد الواحد لمن أراد أن يدفع زكاة الفطر نقداً في عام 1439هـ وبالطبع يتغير المبلغ سنوياً مع تغير سعر الصرف ومستوى التضخم والأسعار، وتبقى الكلمة الفصل عند أصحاب الفضيلة رئيس وأعضاء هيئة كبار العلماء.
عن الجزيرة