تم النشر في السبت 2017-01-07
د. إحسان بوحليقة
لعل برامج «شبكة الأمان الاجتماعي» هي البرامج الأكثر تكلفة في العديد من الدول، فهي تُعنى بتعزيز الاستقرار في المجتمع عبر الحد من الفقر والسعي لاستيعاب كل أفراد وشرائح المجتمع، من باب تساوي الفرص التي يمنحها المجتمع لأبنائه من جانب، وعدم الحد من الفرص أمام أحد بسبب فقر أسرته أو سكنه في منطقة نائية مثلاً.
ومثل هذه البرامج تقوم على أسس التكافل والتعاون حتى لا يكون أحد أفراد المجتمع محروما، فمثلاً، لا يشعر فقير أنه يصارع الفقر منفرداً دون عون، أو تشعر أم مات عنها زوجها أن عليها منفردة رعاية طفلها وتوفير الطعام والرعاية الصحية وأخذه لدار الحضانة وشراء ألعابه، فمن مصلحة المجتمع ككل أن يأخذ الصغير فرصته كاملة بطفولة مستقرة، ولا يُضار بسبب فقر والدته وأنه حرم من الأب وهو صغير.
وفي هذا السياق، نجد أن ثمة منظومة متعددة البرامج تقدم الخدمات الاجتماعية هنا. ورغم أنها تتجاوز مجرد تقديم الطاقة بأسعارٍ مُعانة، إلا أن التركيز مؤخراً كان على بعض جنبات منظومة الدعم.
حيث أعلن قبل أيام أن الخزانة العامة تتحمل فاتورة دعم قدرها 270 مليار ريال سنوياً. وبالتأكيد فهذا رقم هائل، يمثل قرابة 10 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، أو ما يوازي 30 بالمائة من الإنفاق العام. وبالقطع، فإن احتساب الدعم عند 270 مليارا، يتضمن احتساب الفارق بين الأسعار المرجعية (العالمية) والأسعار الحالية المحلية.
وأخذاً في الاعتبار ما أعلن من أن أربعة أخماس الأسر السعودية قد تحصل على دعم نقدي من خلال برنامج «حساب المواطن»، إذاً فسيبدو واضحاً أن صيغة الدعم ستتحول من دعم عام إلى دعمٍ يقتصر على من يستوفي شروطاً تتعلق بالدخل، وأن الدعم سيتحول من حصول المستهلك على «منتجات بأسعار مدعومة» إلى حصوله على نقد (كاش) «إعانة دعم الطاقة والماء».
السؤال: ما الأثر الاجتماعي- الاقتصادي؟ لن يجعل الناس أعلى دخلاً، بل أقل استهلاكاً للكهرباء والماء، وبالتالي تقلص الخزانة بند الدعم، وتصدر الكميات الفائضة للخارج ونحصل مقابلها على دخل للخزانة العامة، بما يزيد من إيرادات الخزانة فيتقلص العجز، وقد يُصبح بوسعها زيادة الإنفاق لحفز الاقتصاد وزيادة سعته.
فيما يتصل بحساب المواطن، فثمة نقاط بحاجة إلى تحديد وتنقيط وتفقيط، منها على سبيل المثال دخل الأسرة والأسس التي سيحتسب بناءً عليها. ومن المُسلم به أن البساطة (غير المُخلّة) مطلب لأكثر من اعتبار، منها سهولة التطبيق والفهم.
لنتصور أن أساس تحديد الدعم كان عدد «التابعين» المقيدين في السجل المدني للمواطن، وبناء على ذلك يحدد ما له من دعم كهرباء (كيلو وات ساعة) يقيد لدى شركة الكهرباء، فمثلاً لنفترض أن رب أسرة يستحق دعما نقديا عن الكهرباء قيمته 700 ريال شهرياً، وأن فاتورته صدرت بقيمة 900 ريال، فيظهر في الفاتورة أن عليه سداد 200 ريال فقط، الفارق بين قيمة الفاتورة وما له من دعم.
بمعنى أن الإعانة لا تودع نقداً في حساب المواطن بل تدفع لسداد فواتير الشركة مباشرة، وفي حال أن قيمة الفاتورة أقل من قيمة الدعم، مثلاً كانت قيمة فاتورة الكهرباء لشهر من الأشهر 400 ريال في حين أن الدعم النقدي كان 700 ريال، فيكون المستهلك في الخيار إبقاء المبلغ المتبقي له (300 ريال) لسداد فاتورة الشهر القادم، أو أن يستردها نقداً.
الفكرة الأساسية هنا، أن تذهب الإعانة النقدية لسداد الفاتورة، إذ أن تجارب الدول في تقديم الدعم الموجه أن يستخدم لشراء ما خصص له، بمعنى أن تذهب إعانة الكهرباء لشراء الكهرباء، وإعانة الماء للماء، والبنزين للبنزين، وحتى إن أضيفت إعانات جديدة مستقبلاً مثل إعانة لشراء الطعام، فتلك لا تستخدم إلا لشراء الطعام.
وفي حال توفير مبالغ من قبل الشخص المستحق فيوضع لذلك إجراءات وتدابير مقننة، للحد من التصرف في النقد في غير ما خصص له. إذ أن هناك كما هائلا من الأدبيات حول تجارب الدول في الدعم النقدي، وعدم استخدام النقد (الكاش) فيما خصص له، فهناك من قد يعتبره دخلا له من حقه التصرف فيه كيفما يشاء، متجاوزاً سداد فواتير المنافع! ولذا، فلعل من المفيد أن تتأمل الجهات المعنية في التجارب الدولية، في الدول المتقدمة اقتصادياً والنامية، لاستخلاص الدروس بما يساهم في جعل الإعانة أداة لتوفير حياة كريمة للأسرة.
ومن ناحية ثانية، فإن البنية التحتية الرقمية وانتشار الخدمات المصرفية الكترونياً يجعلان تطبيق برنامج «حساب المواطن» أكثر سهولة هنا مقارنة بالعديد من الدول، فمثلاً، قبل سنوات قررت الهند تحرير سعر «غاز الطهي»، بتوفر ست أسطوانات غاز في السنة بالسعر المدعوم لكل أسرة، بأن تودع الحكومة الهندية قيمة تلك الأسطوانات في الحساب المصرفي لرب الأسرة، لكنها واجهت صعوبات تقنية عند تطبيق القرار، منها أن أقل من نصف الأسر المستفيدة لدى عائلها حسابات مصرفية، ومحدودية انتشار فروع للمصارف، وأن حوالي سُدس السكان يحملون بطاقة هوية ذكية!
وهذا يأخذنا لنقطة هندسة الدعم كأداة للارتقاء بكفاءة شبكة الأمان الاجتماعي، من خلال تقديم منظومة من الخدمات من خلال «حساب المواطن»، إذ تجدر الإشارة إلى أن تكلفة برامج شبكة الأمان الاجتماعي عالية في معظم البلدان، ولا سيما مجموعة العشرين، ولعل نظرة على بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية توضح القصد، فمثلاً تكلفة هذه البرامج في إيطاليا يقدر بنحو 19% من الناتج المحلي الإجمالي، 17% في فرنسا، 16% في ألمانيا، وحوالي 10% في اليابان. وهذه البرامج تتجاوز دعم فواتير المنافع إلى خدمات أخرى متعددة تشمل – ضمن أمور أخرى- الرعاية الصحية للمسنين وتعويضات المتعطلين عن العمل.
وعلى الرغم من التفاوت الكبير في هيكلية البرامج بين دول أوروبا وبين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تتميز البرامج الأوروبية باهتمامها بدعم دخل الأسر الفقيرة ليصل إلى حدٍ أدنى، إضافة إلى مزايا السكن، ومزايا الأسرة ولا سيما مع وجود أطفال قُصرّ، ورعاية للأسر التي بدون أب أو أم، وتعويضات العاطلين، ومزايا لرعاية الأطفال منها دعم نقدي وأخرى تتصل بتقديم الدعم لدور الحضانة على سبيل المثال.
نقلا عن اليوم