الانهيار الاقتصادي وتجربة الصين مع «كورونا»
تم النشر في الأحد 2020-03-15
د. محمد آل عباس
الجميع قلق بشأن “كورونا”، وما حدث خلال الأسبوع الماضي سواء الإثنين الأسود، أو تراجع أسعار النفط، وما تبعه من قرارات بشأن مواجهة “كورونا” سواء لدينا أو في العالم أجمع، يجعل من الصعب تجاوز هذا الحدث إلى غيره، ولعل أكثر ما يقلق البعض، هو الانهيار الاقتصادي خاصة أن هناك من روج له بشدة منذ أشهر عدة، وأن عام 2020 هو عام الانهيار الاقتصادي العالمي العظيم.
وأقول ابتداء: لا يوجد أبدا مفهوم اسمه الانهيار الاقتصادي في أي كتاب اقتصاد محترم، لا أحد ينظر أبدا إلى الانهيار الاقتصادي؛ لأنه لا يحدث أصلا. هناك أزمات اقتصادية، نعم، وهذه الأزمات أنواع، تشبه الأمراض، ولكل مرض علاجه الخاص، لقد تعلم العالم كثيرا من شرق الأرض، الذين جربوا الشيوعية والاشتراكية، والنظام المركزي، حتى الغرب الرأسمالي المتوحش، العالم جرب كل شيء تقريبا، هناك حلول، لكل أزمة، وكل نظام من هذه الأنظمة له وعليه. في عام 2008 عصفت بالولايات المتحدة أزمة مالية ضخمة جدا، لقد كانت تشبه فيروس كورونا تماما، لكنها فيروسات اقتصادية، ضربت عصب الاقتصاد وهو النظام المالي والديون، ثم انتقلت كما ينتقل “كورونا” الآن، فقط تلك الدول التي كانت هشة، كانت تتألم بشدة، وفقط تلك الأنظمة السياسية المريضة كانت تموت.
ولقد أثبتت الإدارة الأمريكية براعة في معالجة الحدث الأضخم منذ الكساد العالمي الكبير عام 1933، لقد أدخلت إصلاحات هائلة على النظام الاقتصادي، وأصبحت الصناديق السيادية في العالم محورا لمعالجة الاختلالات الكبيرة، التي تصيب النظام الاقتصادي الكلي للكرة الأرضية، هذه الصناديق السيادية ليست رأسمالية بحتة، وليست نظاما اشتراكيا، رغم أنها مملوكة للحكومات، لكنها تعمل بروح الرأسمالية فتصبح كما الشركة الخاصة “تطبق نظريات الاقتصاد الجزئي” فتربح وتخسر وقد تفلس ولها نقاط تعادل، لكن ليست لها حقوق ملكية ولا ملاك، وإفلاسها لا يضر المجتمع في شيء، هذه هي الصناديق السيادية التي تهدف إلى تعظيم الربح وفق أسس رأسمالية بحتة، مفاهيم لم ندرسها جيدا حتى الآن في كتب الاقتصاد، وتحتاج إلى فلسفة جديدة، لكن المهم فعلا أنها كانت الحل المناسب في الوقت المناسب، وانتهت الأزمة، ولم ينهر الاقتصاد العالمي كما روج البعض، وبقيت أمريكا كما هي.
ومع جائحة “كورونا”، التي اندلعت من الصين، كان نظام الاقتصاد المركزي في الصين من أهم الأسلحة التي واجهت هذا العدو، فالقبضة الحديدية للحزب الحاكم الصيني كانت هي العلاج، والعالم الآن يتعلم منها، لم يعد للديمقراطية مكان، فهذا العدو الصغير جدا، هاجم البرلمانات، وقتل البرلمانيين، أوقفهم عن العمل، لا ديمقراطية بلا برلمان، هاجم الوزراء قبل العامة، ولهذا فإن قرارات تخصيص الموارد لمواجهة هذا العدو تحتاج إلى نظام اقتصاد مركزي، وإجبار الناس على التصرف بما تقتضيه الحال من عزل المدن بالقوة، وإيقاف الشركات يحتاج إلى نظام شمولي، ولقد أثبتت الأزمة أن التراخي في معالجتها قد يكون له تكلفة ضخمة وضحايا بالآلاف، فالدول الديمقراطية، التي لم تفعل مثل هذه الإجراءات بعد، أصبحت الآن بؤرا للمرض، ومصدرا لعدوى ملايين البشر، ولعل في تصريحات ميركل المستشارة الألمانية بشأن احتمال إصابة 70 في المائة من الشعب الألماني ما يرعب، ولو أن حجم الكارثة التي أصابت الصين ظهرت أولا في دولة غيرها لما وسع العالم ما يسعه الآن من تصرفات طبقتها الصين، ونجحت، ولم تكن الشعوب لتقبل ما تقبله الآن، إلا بعد فوات الأوان.
ما أود قوله: إن البشر يتعلمون من ماضيهم لمستقبلهم كل يوم، ولهذا لا يحدث انهيار تام وشامل، بل تحولات، ومسارات جديدة، فالأزمة العالمية التي أنتجت قوة الصناديق السيادية هي التي تقدم الدعم اليوم لمعالجة الظواهر السلبية لـ”كورونا”، وهي التي تبحث بشغف بين الركام عن فرص اقتصادية جديدة. الاقتصاد لا ينهار، بل يغير ملابسه -إذا جاز التعبير- لمواجهة قضاياه الملحة، وما نؤمن به كحل اقتصادي ليس بالضرورة أن نموت به، بل نبحث عن غيره لنعيش، لكن المشكلة التي تواجه الأمم ليست في اقتصادها، بل في أمنها، ووحدتها، وعقدها الاجتماعي الذي قبلته وقامت عليه، وهذا ما يدهشك في الصين والولايات المتحدة في مقابلها. عزيمة الشعوب التي آمنت بقدرها ووحدتها. فالصين التي تلقت عام 1959 أكبر كارثة مجاعة أودت بحياة 20 مليون إنسان تقف اليوم في قمة العالم، باقتصاد مرعب لا يأبه لمرض بحجم “كورونا” بينما العالم يترقب بشغف عودة الماكينة الصينية للعمل، ولو كانت الدول تنهار بأزمة اقتصادية لكانت الصين بعد عام 1960 مجرد دولة صغيرة هشة، بدلا من دولة عظمى، تملك حق الفيتو السياسي والاقتصادي.
لقد جاءت رؤية المملكة 2030 لتضعنا في مسار هذه الوحدة والقوة، نؤمن بأهدافها ونعدل ما يلزم إذا وجب، ونترقب يوم الإنجاز لنحتفل به. نحن شعب قوي جدا بوحدته، كما وصفه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في صورة جبال طويق المتراصة، وكما السروات الممتدة. لقد تغير اقتصادنا كثيرا عن تلك الأيام التي انطلقت فيها الـ”رؤية”، وأصبحنا نرأس مجموعة الدول العشرين، ونمتلك صندوقا سياديا ضخما، يعمل على تنمية الاقتصاد بعيدا عن الميزانية العامة للدولة، فلا يتأثر بها ولا يؤثر فيها، وهو قادر على إحداث طلب محلي كاف. نحن نقف جميعا يدا واحدة ندعم قيادتنا الرشيدة، والتحولات الاقتصادية التي تتم الآن بهدوء. وما يجري في سوق النفط أمر متوقع في أي لحظة، وقد تم تخطيط تحرير الاقتصاد من تبعية أسواق النفط منذ انطلقت الـ”رؤية”، ولولا التقدم الذي أحرز في هذا الشأن لما تمكنا من مواجهة العالم المتربص بحصصنا السوقية التي ندافع عنها ببسالة، نحن اليوم أفضل بكثير عن عام 2015 عندما انهارت الأسواق، وما زلنا في الطريق نعمل.
عن الزميلة الاقتصادية