«الإنجليزية» لغة الفصل التعسفي
تم النشر في السبت 2019-05-18
موظفة سعودية حاصلة على درجة البكالوريوس من جامعة سعودية، تحصل على وظيفة بعد عناء في القطاع خاص، وبعد عدة أيام يقوم المدير التنفيذي بالمرور على مكتبها ويتحدث معها باللغة الإنجليزية، ترد بتلعثم جزء منه بسبب أنها مرتبكة وجزء منه لأن الإنجليزية ليست لغتها ولا لغة منزلها والمنازل التي تحيط به ولا البلد الذي تعيش وتعمل مؤسساتها فيه، يعود المدير التنفيذي الصلف إلى مكتبه ليصدر قرارا عاجلا بفصلها من عملها تعسفيا، والسبب، لم تعجبه لغتها وليست متمكنة. هكذا حكم على أدائها ببراعة المدير التنفيذي الذي عاش حقبة من عمره في الولايات المتحدة، وأصبح يجيد اللغة الإنجليزية أكثر من أهلها، ولا بد أن يقضي إجازة الصيف هناك، وهو يدرك بشكل وأضح وقاطع من المتمكن من هذه اللغة، ومن غير ذلك، ولهذا لم يكن لديه شك في أن هذه الشابة السعودية غير قادرة على التحدث باللغة الإنجليزية بطلاقة، وكان القرار واضحا ويجب فصلها عن العمل، وعلى الجامعة التي تخرجت فيها الطالبة تحمل المسؤولية، فالعمل في القطاع الخاص السعودي ليس مكانا لتعلم اللغة الإنجليزية بالطبع، ولكنه مكان للتحدث بها فقط.
لعل الموظفة أخطأت فعلا فهي غير قادرة على الحديث باللغة الإنجليزية، لهذا فهي غير منتجة، لكن هل يبدو هذا منطقيا وصحيحا وعلميا؟ هل فعلا تأثرت أرباح الشركة بسبب عدم قدرة هذه الموظفة على نطق بعض الكلمات بالإنجليزية بطلاقة المدير التنفيذي؟ مثل هذا المدير الفذ لا يعرف أن يسأل مثل هذا السؤال، لأنه لا يعرف أن نماذج القرار في القطاع الخاص وفلسفته مبنية على تعظيم الربحية، وهذا غير مفهوم عنده، رغم أنه مفهوم لدى الألمان وهم يحتضنون ملايين العمال السوريين لأنهم منتجون، وبينما تحقق الشركات الألمانية أفضل أداء يفشل هذا الفذ في تقييم موظفة سعودية بشكل صحيح. لقد ابتلانا الله في هذه البلاد العظيمة بمتلازمة اللغة الإنجليزية للعمل في القطاع الخاص، ثم تطورت هذه الحالة حتى لم يعد يكفي أن تجيد اللغة، بل لا بد أن تنطقها كما يفعل الأمريكي بالضبط، ثم انتقلت هذه المتلازمة المرضية مع انتقال بعض قيادات القطاع الخاص للحكومة حتى أصبحت بعض الهيئات تشترط شروطا في اللغة لم تشترطها الجامعات الأمريكية. وإذا بحثت عن متمكن في تخصصه فإنك لا تجد سوى ترديد أجوف لمصطلحات الاستراتيجية ومختصرات الـ “كي بي آي”، والتعجرف في نطق الأسكور بلنس كارد، وإذا تجاوز أحدهم بعض النقاط تحدث عن «التكيو إم» و«ال كوالتي أشورنس»، ثم اختتمها بالـ«فيدباك»، هكذا ببساطة لا يجد أبناؤنا خريجو الجامعات السعودية فرصة عمل لأنهم غير مؤهلين، وهناك فجوة بين القطاع الخاص والتعليم الجامعي، ولهذا أيضا يجب فصل فتاة مجتهدة.
لقد مررت بتجارب كثيرة جدا لتعليم اللغة الإنجليزية وعرفت أن اللغة الإنجليزية ليست أبدا عائقا أمام العلم والتعليم، كما كنت أعتقد وكما يعتقد كثير من الطلاب، فالمشكلة في العلم نفسه وليست في اللغة. عند تعلم مصطلح مثل القوائم المالية، فإن المشكلة ليست في نطق هذه الكلمات، ليس هذا هو العلم، من السهل على أي شخص أن يقول “قوائم مالية” سواء كانت بالنص العربي أو الإنجليزي، المشكلة هي المفهوم، حدوده وبرهانه. هذا هو العلم وليس مجرد الصوت الصادر من حركة الهواء في طريقه من الرئة إلى خارج الجسم، كلنا يمكننا نطق تلك العبارات الجوفاء ولو ببعض الجهد، لكن كم منا يدرك معناها ومتى، كم من أولئك التنفيذيين البارعين في اللغة الإنجليزية يدرك الفرق بين القوائم المالية والتقرير المالي، بين الاستراتيجية والفعل الاستراتيجي، بين الأصول والأموال، والمصروفات، هذا يحتاج إلى رحلة علم وقراءة طويلة وجهد وتجربة وخطأ، وبحث علمي كثيف، وهو متوافر لدى معظم أبنائنا الخريجين، لكنهم ينطقونها بالعربية وليس بالإنجليزية، ولقد وقفت أمام جهابذة في العلم لا ينطقون الإنجليزية ووقفت أمام أشخاص ليس لديهم من العلم ما يكفي ولكن يتحدثونها بطلاقة.
قلتها من قبل، وقالها من قبلي أساتذتي الكبار، لم نجد في الجامعات سببا وجيها لتعليم الطلاب باللغة الإنجليزية، وإذا كان هذا صحيحا في الماضي قبل ثورة المعلومات والإنترنت فإنه لا شك فيه الآن، لا يوجد سبب لكي يتحدث أبناؤنا اللغة الإنجليزية، أو على الأقل ليس هناك سبب وجيه لكي يتحدثوها بطلاقة، ذلك أنها ليست العلم، وليست العمل أيضا. في مقام العلم فإننا لن نطور ابتكاراتنا ونحن نفكر بلغة غيرنا، كيف يمكن تطوير مفهوم يعمل بكفاءة لحل مشكلة حاضرة الآن في المجتمع السعودي ونحن نفكر بلغة غيرنا، لن يحدث هذا أبدا، وأنا مستعد للمناظرة في هذا، لن يتطور الطب لدينا ونحن نعلم أبناءنا الطب بلغة غيرهم، لن تتطور الأعمال والتجارة، ونحن نقوم بفصل أبنائنا ووبناتنا لأنهم لا يتحدثون الإنجليزية مع أجنبي بجوارهم لا يجيد العربية ولا يريد أن يجيدها.
عن الزميلة صحيفة الاقتصادية