الأعمال الفنية في شتاء طنطورة…جسر تراثي يربط الماضي بالمستقبل
تم النشر في الجمعة 2019-01-25
يضمّ تراث أي أمة ثروة كبيرة من الآداب والقيم والعادات والتقاليد والمعارف الشعبية والثقافة والفنون التشكيلية ، لذا كان الاهتمام به من الأولويات الملحة على مرّ العصور، فالتراث هو ما ينتقل من عادات وتقاليد وعلوم وآداب وفنون ونحوها من جيل إلى جيل، ويشكل بدوره ” التراث الإنساني” و”التراث الأدبي” و”التراث الشعبي”، ليشمل خلاصة ما ماتركته الأجيال السالفة للأجيال الحالية، وليكون عبرةً من الماضي ونهجاً يستقي منه الأبناء الحكمة ليَعبُروا بها من الحاضر إلى المستقبل.
ومن موقعها في شمال المملكة العربية السعودية، تعتبر محافظة العلا عروس الآثار والحضارات القديمة على مر العصور، وأحد المواقع الأثرية المعترف بها عالمياً، كما تعد وجهة سياحية من الطراز الأول لعشاق المناظر الطبيعية لما تتمتع به من بيئة خلابة بتنوع غطائها النباتي، فضلاً عن مجتمعها الزراعي المستند إلى إرث تاريخي عريق.
أدركت الهيئة الملكية لمحافظة العلا هذه الحقيقة، وكرّست جهدها لتسليط الضوء على تراث المنطقة الغني الذي يعود إلى 8 آلاف عام، سطرت البشرية خلالها مسيرتها الحضارات سطرت على واجهات الجبال في كل أنحاء العلا ، فحولتها إلى متحف مفتوح بكل ما تحتويه، ووقفت شاهدة على تاريخ الحضارات ومهدت الطريق لحضارة المملكة الحالية ومستقبلها. وخلال “شتاء طنطورة” الذي تنظمه الهيئة الملكية للمرة الأولى هذا العام، شاركت نخبة من الفنانين السعوديين مسيرة تلك الحضارة بمجموعة من الأعمال الفنية المعروضة في المخيم الشتوي، حيث جمعوا بين الفن المعاصر وسحر التاريخ، وهم؛ سمو الأمير سلطان بن فهد و الذي شارك بعمل فني بعنوان “كان حاكما” وهو تجميع لصور مجسمات معاصرة للحكام العرب القدامى والتي اخذها من معرض كنوز أثرية من المملكة العربية السعودية”، تم تصويرها بالأشعة السينية (الطبية) و التي تظهر مميزات شبيهة بالإنسان مثل الأسنان والعظام
كما شارك كلا من عبد الله العثمان و النغيمشي والدكتورة زهرة الغامدي وراشد الشعشاعي وناصر السالم.
استلهم الفنانون أفكار و عناصر هذه الاعمال الفنية من طبيعة وآثار وتراث العلا بهدف تسليط الضوء على كنوز تراث العلا العريق، وإعادة بناء الفترات التاريخية الغابرة لشعوب المنطقة لإبراز الهوية الوطنية والكشف عن عمق ملامحها. ومن تلك الأعمال ما أطلق عليه الفنان عبد الله العثمان اسم “الصخرة”، وهي صندوق زجاجي يحتوي على صخرة كبيرة مزود بمؤثرات صوتية تم تسجيلها على فترات زمنية بين جبال العلا، لنعيش من خلاله تجربة الانتقال عبر الحضارات القديمة باستخدام الأصوات الطبيعية بين الكهوف والجبال والمزارع والبيوت التراثية وصوت الناقة وهمس الليل. وكما يقول العثمان: “السماع منشأ الوجود، فإن كل موجود يهتز”.
كما شارك العثمان عمل فني آخر أطلق عليه اسم “قسطرة القلب” يتشارك الفنان من خلاله مع المجتمع ويتفاعل مع التراث المعماري في محافظة العلا من خلال تقديم عمل فني معاصر يتناول فكرة “إنعاش للبيوت التراثية”، من خلال عملية القسطرة لإعادة إحياء قلب المدينة. وعبّر الفنان عن ذلك باستخدام التغليف الكامل بالقصدير لبيت تراثي، مما يعكس الأضواء من حوله بشكل ملهم.
اما الفنانة زهرة الغامدي فشاركت بــــــ “نمو يتسارع” مصنوع من الجلد الطبيعي مستوحى من الآثار الحجرية في منطقة العلا وما تحمله من نقوش، ليجسد النمو والتطور الحاصل في المناطق الأثرية التاريخية في العلا. واستخدم الفنان أسلوب الرمزية التعبيرية لنمو الأحجار بفعل العوامل والمؤثرات المختلفة سواء الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية والتاريخية المحيطة بالمنطقة.
أما العمل الذي يحمل اسم “الطفل العملاق يصنع المدينة“، فقد استخدم الفنان راشد الشعشعي في تجهيزه مواد مختلفة وصوراً مخصصة ليخدم المعاني المفاهيمية لتعريف الإشارات المتلقاة يومياً، ويبتكر ما يصفه بـ“الحقل الدلالي” من خلال ما يطرحه من تساؤلات فلسفية، وفي مقدمة تلك التساؤلات الغرض من الوجود الإنساني والوظائف الاجتماعية التي من الممكن اختبارها. ويسعى من خلال أشكاله الملهمة أن يدعو المتفرج للارتباط مع العمل بالدلالات الدنيوية وذلك لتسهيل ما قد يشكل اضطراباً أثناء المشاهدة. ويُجسّد هذا العمل أحد خيالات الفنان في صغره بأن يكون عملاقاً يستطيع بناء المدينة بيديه. هذه الدهشة عادت للفنان حين زار العلا للمرة الأولى وشاهد جبالها العظيمة وآثارها الشامخة وكيف استطاع البشر نحت الجبال قبل آلاف السنين وتخليد آثارهم.
مدينة الطفل العملاق للفنان راشد الشعشعي فعبارة عن عمل فني معاصر يحاكي مجسمات الرمل التي يصنعها الأطفال ويجمع فيها بين النمط المعماري المعاصر وروح الآثار الخالدة في العلا، هذا العمل لا يثبت وجود الطفل العملاق ولكنه يؤكد على ضخامة أحلامنا.
أما الفنان ناصر السالم، فيقدم عملا فنيا يحمل اسم ” يتباهون في البنيان”، وهو عمل فني مبني أساسا على الكلمة العربية المكتوبة، حيث يعتبر الفنان نفسه خطاطا، وتهدف ممارساته الفنية لدفع حدود الفن الإسلامي القديم عبر إعادة اختراعه وتطبيقه بأساليب ووسائل غير تقليدية، وأيضا عبر استكشاف إمكانياته ونواحيه المفاهيمية.
ويسعى الفنان من خلال هذا العمل إلى المقارنة بين المدن القديمة والمدن المعاصرة، فهناك عدد كبير من المدن العربية التي تفتقر إلى ما يُسمى في عالم المعمار “المخطط الشامل للمدينة” الذي يخضع الجميع لقوانينها ومعاييرها. فبحسب السالم، فإن دورة حياة المدن تشبه إلى حد كبير دورة حياة البشر وتقلبات هوياتهم، وبالتالي فإننا بحاجة إلى فهم جديد للهوية العمرانية وتعريف أكثر واقعية للعمارة والمدنية والدلالات الثقافية التي يوحيان بها.
المملكة العربية السعودية مهد للحضارات الممتدة لآلاف السنين، يستقي حاضرها من ماضيها ليبشّر بمستقبل مزدهر، وتُبرز الفعاليات التراثية مثل “شتاء طنطورة” مدى إدراك المملكة للقيمة الفكرية والحضارية للتراث البشري، فلا حضارة بدون تراث لأنها ستصبح حضارة طُفيلية ترتوي من تراث الآخر.