الإعلام ودوره في مكافحة الفساد
تم النشر في الأربعاء 2020-12-09
صور ومظاهر الفساد في المجتمعات متعددة ومتنوعة منها: ما يجرمه القانون ومنها مالا يجرمه ولكنه يعد فسادا متى ما كان نشاطاً، يتضمن اساءة في استغلال السلطة الممنوحة لتحقيق مصالح فردية كالرشوة، والإثراء غير المشروع، بقانون(من أين لك هذا ؟) الذي لا تجرمه الكثير من القوانين، وعليه كانت مكافحة الفساد ومنع وقوعه وتفشيه مسؤولية كبرى وواجب وطني يناط بكل مواطن ومؤسسة، حيث لا تقتصر المسؤولية على إقرار الاستراتيجيات والخطط، بل تفعيل البنية التشريعية والقانونية الناظمة لعمل الحكومة وكل المؤسسات والأفراد، بالإضافة إلى تعزيز دور وقدرات كل مكونات العمل الرقابي، وتمكين الجهات والمؤسسات المسؤولة عن إعمال القانون بما يضمن ملاحقة مرتكبي جرائم الفساد ومعاقبته.
وعليه كانت الجهود لمناهضة الفساد الأمر الذي يدفع وسائل الإعلام أن تأخذ دورها المناسب في عمليات التوعية والتثقيف بالمخاطر الجسيمة التي تنتج عن شيوع ظاهرة الفساد بأنواعه المختلفة وتأثيراته الخطيرة المباشرة على بنية المجتمع ومنها: القضاء على هيبة القانون، انهيار شديد في البيئة الاجتماعية والثقافية، انهيار النسيج الأخلاقي، ازدياد وتنامي ظاهرة الفقر، تهديد التنمية الاقتصادية وهروب الاستثمارات، اشاعة روح اليأس بين أبناء المجتمع وانخفاض المبادرات، زيادة البطالة، التعدي على حقوق الإنسان، تراجع الثقة بالمؤسسات التي تعد اساس التنمية والعدالة وتنفيذ برامج الحكومة.
وبما أن الإعلام بمختلف وسائلة وأنواعه وأشكاله المتعددة القديمة والحديثة يعبر عن ضمير المجتمع ويحافظ على مصالحة الوطنية، كان عليه مسؤولية كبرى للتصدي للفساد بكافة صورة وأشكاله، على أن يتحلى بالموضوعية وحسن المسؤولية لرصد وكشف ومتابعة أية مخالفات وممارسات فاسدة بعيداً عن التشهير والتحيز، لما للإعلام من تأثير في تعديل سلوكيات وانطباعات الأفراد داخل المجتمع، وتمتعه بحرية التقصي والنشر التي لا تشكل مصدرا للرقابة أو المسائلة، بل متنفساً للتعبير عن الرأي العام ووسيلة للمشاركة المدنية نحو كشف الفساد والمفسدين، وصولاً إلى بناء مؤسسات أكثر فاعلية ورصانة في المجتمع.
وعليه كان التأكيد على دور الإعلام لمكافحة الفساد من خلال اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي دخلت حيز التنفيذ في كانون الأول/ديسمبر 2005 بعد اعتمادها في الثلاثين والواحد من اكتوبر 2003 واختارت بعدها الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم التاسع من ديسمبر يوما دوليا لمكافحة الفساد من أجل إذكاء الوعي عن مشكلة الفساد وعن دور الاتفاقية في مكافحته ومنعه حيث اعتبرت هذه الاتفاقية الأكثر شمولا وثقة في مكافحة الفساد على النطاق العالمي حيث اشتركت فيها اكثر من 120 دولة في الاعمال التمهيدية والمفاوضات الخاصة التي سبقت اقرارها كونها تمثل استراتيجية شاملة لمكافحة الفساد على جميع الصعد التشريعية والاجرائية والتثقيفية داخليا وخارجيا، وصادقت عليها 165 دولة حتى يناير 2013 لتحول التزامها على هذه المصادقة الى صيغ تشريعية لها نفاذ في نظامها القانوني الداخلي لمواجهة الظواهر المؤثرة عالميا، ومن أهم الأغراض التي سعت اليها الاتفاقية، ترويج وتدعيم التدابير الرامية إلى منع و مكافحة الفساد بصورة أكفأ وأنفع، ترويج وتسير ودعم التعاون الدولي والمساعدة التقنية في مجال منع ومكافحة الفساد بما في ذلك استرداد الموجودات، تعزيز النزاهة والمساءلة والإدارة السليمة لشؤون الممتلكات العمومية..
وبناء على هذا التوجه العالمي توالت الجهود الدولية لمكافحة هذه الأفة المدمرة لتطور ونمو المجتمعات ومن ضمنها جهود مملكة البحرين الإعلامية والتثقيفية التي بذلتها الجهات الرقابية فيها، والتي تعني بمكافحة الفساد، ونشر ثقافة النزاهة والشفافية من خلال الإدارة العامة لمكافحة الفساد والأمن الاقتصادي والإلكتروني في العام 2004 قبل المصادقة على الاتفاقية لمكافحة الفساد، والتي هدفت الى: الحد من الفساد المالي والإداري، من خلال تطوير الإجراءات الوقائية وتدابير الكشف، رفع مستوى الوعي الثقافي لدى الجمهور العام بمفهوم الفساد من خلال الحملات الوطنية لمكافحة الفساد، تعزيز الشراكة المجتمعية من خلال دعم دور المجتمع المدني في حماية النزاهة ومكافحة الفساد، متابعة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد ورصد نتائجها وتقييمها ومراجعتها ووضع برامج عملها وآليات تطبيقها، تعزيز التعاون على المستوى الوطني بين الأجهزة الرقابية المعنية بتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد، تعزيز التعاون على المستوى الإقليمي والدولي في مجال مكافحة الفساد، إجراء الدراسات والبحوث النوعية، حيث تم إنشاء هذه الإدارة في ظل المشروع الإصلاحي لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حيث تم رفع المستوى التنظيمي لإدارة مكافحة الجرائم الاقتصادية إلى مستوى إدارة عامة، بموجب المرسوم الملكي رقم ( 109 ) لسنة 2011م وذلك من خلال تعديل مرسوم رقم (69) لسنة 2004م، والقاضي بإعادة تنظيم وزارة الداخلية بإنشاء الإدارة العامة لمكافحة الفساد والأمن الاقتصادي والإلكتروني لتشمل إلى جانب اختصاصاتها مسؤولية القضاء على أوجه الفساد، وتطوير الحكم الوقائي واتخاذ التدابير اللازمة للكشف عن جرائم الفساد والحد منها، وبالتالي أصبحت شعبة مكافحة جرائم الفساد التي أنشأت بقرار وزاري رقم (40) لسنة 2009م إدارة تعنى بمكافحة جرائم الفساد بموجب هذا المرسوم، إلى جانب الإدارات الأخرى التابعة للإدارة العامة. كونها تؤدي دوراً داعماً ومكملاً لما تقوم به وسائل الإعلام الجماهيرية في سعيها إلى توعية وتثقيف الجمهور عامة وموظفي الدولة على وجه الخصوص، بمخاطر الفساد حيث مازالت الجهود تتوالى وتتابع للتصدي لهذه الآفة.
ومن أهم الآليات التي اتبعتها مملكة البحرين الخط الوطني الساخن لمكافحة الفساد (نزاهة) (992) ليساهم المجتمع في تحمل المسؤولية، القوانين والاتفاقيات منها قانون العقوبات الصادر بالمرسوم بقانون رقم 15 سنة 76 ، وقانون الرقابة المالية والإدارية الصادر بالمرسوم بقانون رقم 16 لسنة 2002 ، وقانون الخدمة المدنية الصادر بمرسوم بقانون رقم 48 لسنة 2010 ، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقعت عليها مملكة البحرين في 27 فبراير 2005 وصدقت عليها بموجب القانون رقم 7 لسنة 2010 ، والاتفاقية العربية لمكافحة الفساد ، اضافة الى الأنشطة والفعاليات والمؤتمرات والحملات الوطنية والنشرات والإعلانات التوعوية واستمارة الإبلاغ الإلكترونية، ووجود جهات تابعة رقابية داخلية وخارجية ومنها ديوان الرقابة المالية والإدارية ومجلس المناقصات وديوان الخدمة المدنية.
وبما أن مقاومة الفساد حجر الزاوية لكل عمل تنموي يهدف إلى ضمان كرامة العيش لكافة أفراد المجتمع و تحقيق النمو الاقتصادي المتواصل فكانت المقومات الأساسية لمكافحة هذه الآفة المجتمعية من خلال: توفير شروط النزاهة والأمانة في أجهزة السلطة والإدارة حتى توضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار، توفير قضاء مستقل يضمن للمتقاضين حسن تطبيق القانون ويعطي كل ذي حق حقه، ومساءلة كل مخل بالتزاماته وكل مخالف للقانون، صحافة حرة ومجتمع مدني يقوم بدور الحارس الأمين على مصالح المجموعة الوطنية من خلال التشهير بكل من تسول له نفسه الإضرار بالمال العام والتنديد به وفضح اختلالاته وتجاوزاته مما يشكل خير رادع لمثل هذه الأفعال.
ومنها كان الدور الرئيس للإعلام في كشف ومحاربة ظاهرة الفساد، فلم يعد يمر يوم دون أن تتناول وسائل الإعلام المختلفة سواء المقروءة أم المسموعة أم المرئية أم الإلكترونية أحد الموضوعات ذات العلاقة بالفساد والنزاهة والشفافية والمساءلة وغير ذلك، بناء الثقافة العامة للفرد والمجتمع، وتأكيد دورة في بناء القيم السائدة للتنمية والتقدم، والمساواة، وقبول الآخر وغيرها من القيم الإيجابية التي تساعد المجتمع على تحقيق الإصلاح والتحديث وبناء الحكم الرشيد، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن حرية الاطلاع على المعلومات وعرضها للجمهور ودرجة قوة الممارسة الإعلامية في التعبير عن قضايا الشعوب، تعود إلى مدى تطبيق الديمقراطية التي تسود هذا المجتمع ومدى تراكمها كقيمة سياسية واجتماعية وثقافية تسمح لوسائل الإعلام بحرية الرقابة، والكشف، والتقويم، لأداء الأجهزة الحكومية، وبناء السلوكيات الرصينة المؤدية إلى البناء الثقافي النزيه للفرد والمجتمع من خلال الوسائل المتعددة للإعلام والتي لها دور متميز في تشكيل الرأي العام وطرح قضايا وموضوعات سياسية واقتصادية واجتماعية بالشرح والتفسير والتوجيه، الارتقاء بالبناء المعرفي والإدراكي والسلوكي للمواطن في كافة المجالات، نشر الأخبار المتنوعة من جميع دول العالم، وتكون صالحة لتوعية الفرد والارتقاء بمجتمع مطلع قادر على التفكير والتحليل، ربط وقائع الاحداث والمشاهدات من حولة بالصورة الذهنية التي ترسمها وسائل الإعلام.
وبلا شك أن النظم السياسية تأخذ في اعتبارها هذا الدور الفاعل لوسائل الإعلام عند مخاطبة جماهيرها ومحاولاتها التأثير فيهم وإقناعهم بما تراه مناسبا لسياستها، وهنا تظهر تأثيرات الإعلام النفسي على الرأي العام ومدى قدرته على احداث التغييرات المطلوبة على شخصية الفرد من جهة وبنية المجتمع من جهة آخري.
وحتى تحقق وسائل الإعلام أهدافها في التوعية والتثقيف والإقناع في مجال مكافحة ظاهرة الفساد لابد أن ترتبط أنشطتها بتحقق المتطلبات الأتية: ربط أهداف هذه الأنشطة بالمصلحة الوطنية العليا في التنمية الاجتماعية ومستقبل الوطن، ايضاح هذه الأهداف للموظفين وللجمهور العام في آن واحد، اثبات موضعية هذا النشاط وتطابقه مع الوقائع، استخدام الأنشطة لعنصر التحفيز المرتبط بالدوافع القيمية والنفسية كتحقيق العدالة الاجتماعية، تسليط الضوء الإعلامي على الرقابة والمساءلة في ضبط أعمال الفساد والتصدي لها، عرض آراء قادة الرأي والنخبة في المجتمع لتعزيز المصداقية وعمق التأثير في الجمهور، استخدام الوسائل الإعلامية الموثوق بها والأشخاص الذين يتمتعون بمصداقية مؤكده، ترويج الدعوة إلى تطبيق صور الإصلاح الإداري والتخلص من المحسوبية والانانية، تجنب المبالغة في الترغيب بالثواب والتلويح بالعقاب المترتب على سلوك الفرد دون تطبيقها، دعم حتمية فصل السياسة عن الإدارة على أساس أن الوظيفة العامة هي صورة اجتماعية وطنيه خادمة أولا، ومن ثم هي وسيلة للكسب الشريف ثانياً، مواكبة تنفيذ الجهود الإعلامية بعملية تقويم دوري تسمح بتعديل الأسلوب والمضمون والوسيلة في الوقت المناسب وتكثيف الحملات أو تقليلها حسب الحاجة لذلك.
ورغم كل هذه الجهود الدولية المبذولة لمكافحة الفساد ودور الإعلام في ذلك إلا إن الفساد أمر يصعب معالجته بصورة مطلقة لأن آثاره ضاربة في جذور الأرض ومتأصلة ومن الصعب التوغل لفك نسيج هذه الظاهرة القديمة قدم الإنسانية، وإن كل ما قدم من جهود دولية كانت أم محلية إنما هي جهود للتخفيف من آثار الفساد على أرض الواقع، وانقطاع تغذية جذوره من خلال صمام الأمان وهو الإعلام ووسائله شرط أن لا يكون الإعلام جزء من هذا الفساد، والذي تتغير جهوده بتغير الفساد المبني على تغير ظروف المجتمع وتطور حاجات أفراده ومتطلباتهم ووعي الجمهور بأهمية الإعلام والنتائج التي يستطيع أن يحققها لإصلاح المجتمع والكشف عن جرائم الفساد وطرحها على طاولة القضاء للمحاسبة