لماذا فشل خبراء صناديق التحوط والبورصة في التنبؤ بالأزمة المالية؟
تم النشر في الخميس 2020-01-23
دحمزة السالم
في عصرنا الحاضر القائم على العلم والمعرفة، يلعب الخبير دورًا رئيسًا في توجيه المجتمعات للتقدم أو للتخلف. فقيام المجتمعات المدنية الحديثة اليوم على العلوم المعقدة والبالغة التخصص، أعطت الخبير قوة احتكارية في توجيه القرار الإداري أحيانًا، أو في التحكم فيه أحيانًا أخرى. ومن هنا ظهرت الحاجة الشديدة والملحة للإداريين الذين يتمتعون بمقدرة قوية على التفكير الإستراتيجي العميق في تحليلاته، والدقيق في ملاحظاته، القادر على الربط بين منطق آراء الخبراء في التخصصات المختلفة أو الحكم بين آرائهم المتناقضة في التخصص الواحد. فالقيادة الإدارية العليا اليوم ليست إدارة لأفراد في مجموعة، بل هي إدارة لآراء الخبراء – تُمحص صحة منطقها ثم تجمع بين متناقضها وتفرق بين متعارضها- لقيادة عملية استخراج القرار الإستراتيجي الأمثل، الذي تحتاجه المنظمة.
فالفارق بين القائد والخبير فارق مؤثر وعظيم. فتركيبة عقل كل منهما تختلف عن الآخر. فعقلية القائد تتبع التسلسل المنطقي بطريقة أفقية، بينما عقلية الخبير تتبع التسلسل المنطقي بطريقة عمودية. فالقائد لا يقدر على حصر فكره في مكان أو حيز واحد وهذا سر موهبته، وعلى عكسها تكون سر موهبة الخبير. فسر موهبة الخبير قدرته على حصر فكره في حيز واحد. وكلما ضاق حيز فكر الخبير تفوق في تخصصه. فالخبير الماهر المتمكن لا يتوقف عن تتبع موضوعه بالتسلسل المنطقي العمودي، صعودًا وهبوطًا، ولا يستطيع النظر إلى التشابك المنطقي الأفقي مع آراء الخبراء الأخرى. ولهذا فشل عباقرة خبراء صناديق التحوط والبورصة في التنبؤ بالأزمة المالية، فهم خبراء مضاربة، وليسوا قادة لقرارات إستراتيجية، التي هي في طبيعتها عريضة الأفق بعيدة في مداها الزمني. فالقيادة الإستراتيجية تحتاج تفكيرًا تسلسليًا أفقيًا، يربط منطقيًا بين منطق النتائج والحقائق المختلفة والمتباعدة. وقد كانت معطيات الأزمة أمامهم واضحة، فلم يروها، لأنها كانت تقع أفقيًا عن خط تسلسل أفكارهم العامودي، (كنشر الاحتياطي الفيدرالي معلومات تضاعف وتزايد ضخه للسيولة في البنوك).
وفي عصرنا الحاضر خاصة، يتطلب من منصب الإدارات العليا أن يكون شاغلها له حد أدنى من الإلمام بتخصصات المنظمة. ويصبح شرطًا لازمًا في حالة نمو منظمة متطورة في ظل تنافسية قوية.
وعلى الرغم من تباين عقلية القائد وعقلية الخبير واختلافهما في تركيبتهما المنطقية، إلا أن كلاهما لا بد أن يكون نبيهًا لحاظًا لا تفوته شاردة ولا واردة من معلومة أو فكرة أو كلمة أو خاطرة. فبدون هذه القدرة لن يرتقي الخبير كثيرًا في تفكيره العمودي. وبدون هذه القدرة، لن يري القائد – بتفكيره الأفقي- الفرص والمخاطر والمهالك، في اللوحة الواسعة المتشابكة، التي يخط فيها كل خبير بخط أو مجموعة خطوط، حتى تصبح وكأنها مجمع للجن في مفازة مهلكة.
لم يكن جورج واشنطن مفكرًا ولا إستراتيجيًا عسكريًا ولا عبقريًا، وعلى الرغم من ذلك نجح نجاحًا باهرًا كقائد جيش وكقائد دولة. ذلك لأنه كان يحسن اختيار الرجال، ثم يحسن بعد ذلك قيادتهم وثم يحسن اختيار الرأي الأصوب بينهم
عن الزميلة الجزيرة