*شكراً.. كورونا*
تم النشر في الأثنين 2020-04-13
أجل، لكورونا كل الشكر والتقدير، بل العرفان والامتنان، إذ أظهرت لنا عوار العالم، من بيت العنكبوت الذي كانت بعض دول الغرب التي تسمي نفسها (دولاً عظمى) تستتر خلفه، إلى خواء الاتحادات الوهمية التي تذكرنا بتلك المقولة الدارجة الشهيرة التي نعرفها كلنا: (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب)؛ فكنَّا نحن في بلاد العرب والمسلمين ذلك الغريب الذي اتحد أبناء العم سام في الغرب ضدَّه لقرون، لزرع الفرقة بيننا وتشتيت جمعنا وتبديد طاقاتنا واستنزاف مواردنا، لكي يسهل عليهم التهامنا واحداً تلو الآخر، محققين فينا أيضاً واحدة من مقولاتنا الدارجة الشهيرة: (أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض).
وأشهد لهم أن ذهنهم مبدع في إيجاد كل الوسائل الفعالة التي ساعدتهم على تحقيق أهدافهم تجاهنا، إذ كانت تلك المنظمات التي قالوا إنها تُعْنَى بمراعاة (حقوق الإنسان) في العالم، إحدى أهم تلك الحيل. واليوم تؤكد لنا كورونا أن تلك المنظمات أيضاً وهمية، شأنها شأن اتحاداتهم، بل مجرد عصا غليظة في يد الغرب، أو قل إن شئت (أداة سحرية) لتحقيق أهدافه في نهب ثرواتنا؛ الأمر الذي أكد لنا اليوم بشكل قاطع صحة نظرية المؤامرة التي طالما كتبنا عنها منبهين الذين أدمنوا التغريب من أبناء جلدتنا، للأسف الشديد، إلى خطورتها، فكانوا يسخرون من حديثنا عنها، بل يصفونه بـ (حديث خُرَافَة).
أجل، شكراً كورونا.. لأنها فضحت لنا المستور في أمريكا وأوروبا من ادعاءات رعاية (حقوق الإنسان)، وتوفير كل ما يلزم من أسباب السعادة والرفاهية والحماية للمواطنين، حتى إن استدعى الأمر تحريك الأساطيل من أجل نصرتهم في حال تعرضوا لظلم هنا أو لحق بهم ضيم هناك، حسبما جاء في الصفحة الأولى من جوازاتها التي يحملها أولئك المواطنون؛ غير أن ذلك كله تبخَّر يوم اشتد أوار كورونا. فعجزت تلك الدول التي طالما تشدَّقت بتحريك الأساطيل لحماية مواطنيها خلف البحار، عن حمايتهم داخل حدودها من فيروس لا يُرَى بالعين، حتى عن طريق توفير أبسط وسائل الحماية والوقاية من كمامات وقفازات ومواد تعقيم وثياب حماية للعاملين في المجال الطبي من أطباء وغيرهم. فاستعرت حرب (مضحكة مبكية) في مطارات (دول حماية حقوق الإنسان)، أبطالها لصوص الكمامات والقفازات، ناهيك عن عجز تلك الدول عن توفير أجهزة التنفس الاصطناعي أو حتى توفير أَسِرَّة تنويم داخل مرافقها الصحية؛ فرأينا صرعى الكورونا هناك عبر الفضائيات على البلاط دونما أدنى نوع من رعاية طبية أو حماية مزعومة لا تتطلب أكثر من كمامة وقفاز وجهاز تنفس اصطناعي، ولا تحتاج إلى تحريك أساطيل عبر البحار، رُبَّما تكلف كثيراً من الوقت والجهد والمال.
بل أكثر من هذا: قرَّرت بعض تلك الدول التي تنعت نفسها بـ (دول عظمى) نزع أجهزة التنفس الاصطناعي عن كبار السن وتركهم يصارعون سكرات الموت وتوفيرها للأطفال والشباب؛ بل أشنع من هذا وأفظع: أعلن رئيس دولة الملالي في طهران على الملأ أنه لن يوجه بإيقاف العمل في الدولة حتى إن وصل عدد الذين يلقون حتفهم في البلاد بسبب كورونا إلى مليوني مواطن يومياً! في استفزاز تقشعر له الأبدان، وسادية لا يمكن أن تصدر إلا عن إنسان مخبول، وليس مسؤولاً أول في الدولة.
أجل، شكراً كورونا لأنها أكدت للعالم أجمع بالحجة الدامغة أن السعودية وحدها.. وحدها السعودية من بين دول العالم الـ (196)، هي الدولة الوحيدة التي وقفت صامدة كالأسد، مؤكدة حديثها عن صدق رسالتها وحرصها على خير الناس أجمعين، وعملها الدءوب من أجل صلاح العالم عملياً في أحلك الظروف وأصعب اللحظات التي تعيشها البشرية اليوم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بشهادة رؤساء تلك الدول (العظمى).
أجل، وحدها السعودية (دقَّت صدرها) وقالت لمواطنيها: أبشروا بتوفير كل ما يلزم من رعاية طبية على أعلى المستويات، بل رعاية اجتماعية وإنسانية واقتصادية أيضا لكل من يبتليه الله بهذا الوباء. بل أكثر من هذا: بشَّرت السعودية كل موجود على أراضيها من زوار ومعتمرين ومقيمين، حتى أولئك الذين تسلَّلوا إلى أراضيها بطرق غير شرعية بتوفير الرعاية الطبية اللازمة لهم دونما أدنى مساءلة نظامية بحقهم.
فحشدت الدولة كل إمكاناتها، واستنفرت كل العاملين في القطاعات المعنية من أشاوس الجيش الأبيض، إلى أبطال الأمن والجيش وغيرهم من معنيين في الدولة بالتصدي للحد من خطر هذه الجائحة، ولم تطلب من مواطنيها غير البقاء في منازلهم آمنين مطمئنين سالمين؛ وتحمَّلت الجزء الأكبر من رواتبهم في القطاعين العام والخاص، ووفرت مليارات الريالات لشركات القطاع الخاص لاجتياز هذه المحنة بأقل ضرر ممكن.
أجل، شكراً لكورونا التي أعادت لنا تعريف معنى المسؤولية الحقيقية تجاه المواطن؛ ففي حين تخلَّت دول (رعاية حقوق الإنسان) المزعومة عن مواطنيها العالقين خارجها، بل أكثر من هذا: طلب بعض تلك الدول مقابل مادي لإعادة أولئك العالقين إلى أوطانهم دونما مراعاة لظروفهم، وحبست القادمين على السفن والبواخر وسط البحار والمحيطات فتركتهم فريسة سهلة للفيروس كي ينهش أجسادهم.. أقول في هذا الوقت نجد على الجانب الآخر المشرق، بل الأعظم إشراقاً، أن السعودية الدولة المسؤولة وصَّلت الطعام وكل ما يلزم مواطني الأحياء الذين طلبت إليهم البقاء في منازلهم طيلة اليوم في المدن الأكثر تضررا بالكورونا حتى عتبة دارهم، كما وفَّرت لمواطنيها العالقين رعاية في فنادق سبعة نجوم حيث يوجدون، إلى حين زوال الخطر وفتح المطارات والموانئ البحرية والبرية للعودة إلى حضن الوطن الرءوم.
أجل، شكراً كورونا، التي أكدت للعالم أن السعودية فعلت هذا كله، ومستعدة لفعل المزيد إن تطلب الأمر من أجل تحمُّل مسؤوليتها كاملة تجاه مواطنيها وكل إنسان موجود اليوم على أراضيها، من مخزونها الإستراتيجي (من قرشها الأبيض الذي ادخرته لمثل هذا اليوم الأسود)، ولم تضطر للاقتراض أو تمد يدها لمواطنيها؛ بل كل ما طلبته إليهم هو البقاء في منازلهم من أجل حماية أنفسهم قبل حماية الآخرين، بخلاف تلك الدول التي قضت عمرها كله في الصراع على الكرسي، فأصبحت خزائنها أفرغ من فؤاد أم موسى؛ ولهذا اضطرت لمد يدها والتَّسول لمواطنيها لدعمها، مستعينة بعبارات تستدر العطف وتثير الشفقة.. مستجدية منكسرة. وفوق هذا وذاك، اشتكى بعض المصابين فيها بالوباء من تنمُّر بعض أفراد المجتمع؛ فاجتمع الجهل إلى جانب الفاقة، فكانت المأساة أعظم.
أجل، وحدها السعودية في العالم اليوم الدولة التي أعلنت قيادتها الشجاعة الحكيمة الرشيدة الذكية المخلصة، تحمُّل مسؤوليتها كاملة، متَّكلة على الله سبحانه وتعالى، ثم على كفاءة العاملين في الدولة، لاسيَّما جيشها الأبيض الشجاع المخلص الوفي، إضافة إلى تعاون مواطنيها من أجل الخروج من هذه الأزمة بأقل خسائر؛ فناهزت الصين في تشييد المصانع في أسابيع لإنتاج مواد الحماية والوقاية اللازمة وتهيئة المستشفيات. وبصراحة، بل بكل أمانة، لم أسمع حتى هذه اللحظة أن مصاباً بهذا الوباء الخطير قد ذهب إلى هذا المستشفى أو ذاك، خاصة المستشفيات العامة، ولم يتم استقباله بحجة عدم القدرة على تقديم الرعاية اللازمة له.
والحقيقة هذا الأمر ليس غريباً على دولة الرسالة، إذ كان مستوى رفاهية المعيشة في السعودية أثناء الحرب العالمية الثانية، أفضل مما عليه الحال في أي بلاد أخرى باستثناء أمريكا، مع الفارق طبعاً في قدرة اقتصاد البلدين يومئذٍ، بشهادة كل من كتب عن تاريخ الدولة السعودية.. فلله الحمد والمنَّة.
وأختم بتوجيه رسالة مقتضبة إلى جامعة الدول العربية، الحاضر الغائب، الذي وُلِدَ ميتاً بسبب التنافس الإقليمي بين أعضائه، للأسف الشديد؛ إذ لم يسمع له أحدٌ جعجعة، أو يرى له طحيناً في هذه الأزمة أو غيرها من الأزمات السابقة التي كانت في كل مرة تضع مصير الأُمَّة على المحك. فقد طلبت إليها في مقالي الأخير راجياً أن تعلن حل نفسها لتتحول إلى مركز للأبحاث يُعْنَى بالتعامل مع الأوبئة مثل كورونا وأخواتها.. فهذا أنفع لنا نحن المواطنين العرب، وأحفظ لماء وجهها هي.. الحاضر الغائب.
أمَّا إن عزَّ على الحاضر الغائب تنفيذ طلبي هذا، فأهديه اليوم فكرة أخرى، بالطبع مع كل الاحترام والتقدير؛ وهي فكرة استطيع أن أقول بكل ثقة إنها عبقرية ناجحة ناجعة.. أجل فكرة عبقرية، وهي على كل حال ليس من بنات أفكار محدثكم، بل مستقاة من رد مؤسس دولتنا الطيبة المباركة هذه، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، على سليمان شفيق باشا والي البصرة، الذي فوَّضه (الصدر الأعظم) آنئذٍ في القسطنطينية لكسب ود صقر الجزيرة بعد أن لمع نجمه ليشكل ثقلاً يرجح بكفة حركة (القومجية العرب).. فجاءهم الرد الصاعق من الصقر الثابت الراكز، الذي أجد نفسي مضطراً لنقله هنا كما هو، حتى لا أفسد المعنى:
(إنكم لم تحسنوا إلى العرب، ولا عاملتموهم في الأقل بالعدل، وأنا أعلم أن استشارتكم إنما هي وسيلة استطلاع لتعلموا ما انطوت عليه مقاصدي، وهاكم رأيي، ولكم أن تؤولوه كما تشاؤون: إنكم المسؤولون عما في العرب من شقاق، فقد اكتفيتم بأن تحكموا وما تمكنتم حقاً من ذلك، فقد فاتكم أن الراعي مسؤول عن رعيته، وقد فاتكم أن صاحب السيادة لا يستقيم أمره إلا بالعدل والإحسان، وقد فاتكم أن العرب لا ينامون على الضيم، ولا يبالون إذا خسروا كل ما لديهم وسلمت كرامتهم.
أردتم أن تحكموا العرب وتقضوا إربكم منهم، فلم توفقوا إلى شيء من هذا وذاك. لم تنفعوهم ولا نفعتم أنفسكم، وفي كل حال أنتم اليوم في حاجة إلى راحة البال، لتتمكنوا من النظر الصائب في أموركم الجوهرية.
أما ما يختص منها بالعرب فإليكم رأيي فيه: إني أرى أن تدعوا رؤساء العرب كلهم كبيرهم وصغيرهم إلى مؤتمر يعقد في بلد لا سيادة ولا نفوذ فيه للحكومة العثمانية، لتكون لهم حرية المذاكرة. والغرض من هذا المؤتمر التعارف والتآلف، ثم تقرير أحد أمرين: إما أن تكون البلاد العربية كتلة سياسية يرأسها حاكم واحد. وإما أن تقسموها إلى ولايات، فتحددون حدودها، وتقيمون على رأس كل ولاية رجلاً كفؤاً من كل الوجوه، وتربطونها بعضها ببعض بما هو عام مشترك من المصالح والمؤسسات، وينبغي أن تكون هذه الولاية مستقلة استقلالاً إدارياً وتكونوا أنتم “المشرفون” عليها، وإذا تم ذلك فعلى كل أمير عربي، أو رئيس ولاية أن يتعهد بأن يعضد زملاءه، ويكون هو وإياهم يداً واحدة على كل من تجاوز حدوده، أو أخلَّ بما هو متفق عليه بيننا وبينكم… هذه هي الطريقة التي تستقيم فيها مصالحكم ومصالح العرب، ويكون فيها الضربة القاضية على أعدائكم).
فهلاَّ من مستجيب أيها الحاضر الغائب؟.. أرجو صادقاً أن يكون في هذه الرؤية التي سبقت عصرها بأكثر من قرن، خارطة طريق لتأسيس عالم عربي جديد، مستقلاً عن الغرب والشرق وغيرهما، مكتفياً بقدراته، محققاً قولاً وفعلاً فلسفة الجسد الواحد.
وختاماً: لا يسعني إلا أن أتقدم بجزيل الشكر والتقدير وأصدق آيات العرفان والامتنان لولي أمرنا قائد مسيرتنا الظافرة إلى الأبد إن شاء الله، سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، و ولي عهده الأمين أخي العزيز صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، على هذه الجهود الاستثنائية، وهذا الحس الإنساني الفريد. وحبل الشكر موصول إلى كل فرد من كتائب الجيش الأبيض التي أكدت كفاءتها وقدراتها، وإخلاصها لقيادتها وحبها لوطنها ووفائها لمواطنيها. ولن ننسي كل مواطن ومقيم في هذه البلاد الطيبة الطاهرة المباركة لالتزامهم بتعليمات الجهات المعنية من أجل توحيد الجهود لمكافحة هذه الجائحة الخطيرة. وبالطبع لن ننسى أولئك الأحرار الصادقين الذين أثنوا على جهد السعودية وشكروا لها سعيها وحسن صنيعها، وأشادوا بتميزها وتفردها في تحمل مسؤولية جسيمة في واحدة من أصعب لحظات التاريخ التي تعيشها البشرية اليوم، مبتهلاً إلى الله العلي القدير أن يحفظ الجميع من كل سوء ويجنبهم كل مكروه.