التستر .. المفهوم الخاطئ والمعدوم
تم النشر في السبت 2020-06-20
د محمد آل عباس
لا شك في أن كثرة وجود العمالة الأجنبية في قطاع التجزئة على هذا النحو الذي نشاهده اليوم تعد ظاهرة اقتصادية مستفزة، وإذا أضفنا إليها ممارسات الاتفاق على الأسعار، وصناعة معوقات الدخول إلى السوق أمام المبادرين السعوديين، وما تم رصده من الغش التجاري، لكن على الرغم من هذا فإنه من الخطأ استخدام شماعة العمالة الأجنبية ومفهوم التستر للتهرب من مواجهة المشكلات الاقتصادية الحقيقية. قلت في مقال سابق إن التستر مفهوم غير اقتصادي وليس له وجود في الحقيقة والأدق أن يطلق عليه التهرب الضريبي والملاذات الضريبية، ولهذا لا يمكننا تقنين أو مواجهة معدوم. وهذا ما سأعيد توضيحه في هذا المقال، وقد يرد البعض بأنه قد تم فعلا رصد حالات تستر وتم التشهير بها، لكني أشبه ذلك بالأمراض التي كانت تصيب البشر سابقا يسمونها بغير أسمائها حتى أتى العلم الحديث وكشفها وكشف زيف تلك الأسماء، والتستر الذي يكتشف ليس سوى أمراض اقتصادية معروفة سأوضحها فيما يلي.
إذا كنا نعتقد أن التستر “جريمة” لأن شخصا ما منح اسمه وسجله شخصا آخر فإن الامتياز التجاري جريمة أيضا، ولكن الثاني نسميه الامتياز ونقننه ونشجع عليه والآخر نجرمه بل لسبب واضح. لهذا فإن منح شخص اسمه التجاري شخصا آخر سواء كان أجنبيا أو مواطنا ليس جريمة في ذاتها وهو نوع من أنواع التجارة التي أحلها الله، هذه النقطة الأولى التي يجب الاتفاق عليها، لأنه إذا كنت عزيزي القارئ تعتقد أن منح الاسم للتجارة يعد جريمة في ذاتها فقد انتهى هذا المقال بالنسبة لك هناك. أما إذا اتفقنا على أن منح الاسم ليس جريمة بل الصحيح أنه تهرب ضريبي، فإن تقنين ذلك هو ما يجب أن يتم فورا. قد يقول البعض إن هذا موجود فعلا من خلال نظام الاستثمار الأجنبي ومن خلال نظام الشركات حيث يستطيع المواطن أن يشترك مع أجنبي في شركة مختلطة وتتم ممارسة الأعمال علنا فلماذا لا يقوم بها من يسمى متسترا (مع تحفظي على الاسم)؟ أقول هنا إن السبب كما قلت في مقال سابق هو (تكلفة الوكالة). فليس كل مواطن قادرا على تحمل هذه التكلفة. فالشراكة مع أي شخص تتطلب منك الإشراف المباشر حتى تطمئن للنتائج سواء كانت ربحا أو خسارة، وإذا لم ترغب في الإشراف فقد تشترط ربحا معلوما دون خسارة وهذا محرم، لهذا فإن عليك إذا أردت الشراكة مع عامل أجنبي أن تشرف بنفسك طوال اليوم وهذا سيصرفك عن أعمالك الأخرى خاصة إذا كانت الأرباح الصافية غير كافية، وقد تقرر أن تكلف من يراقب الأعمال وهذا سيجعلك تدفع تكلفة تسمى علميا (تكلفة الوكالة) وهي ستتسبب حتما في خسارتك جزءا كبيرا من أرباحك. لهذا أقول إن من يعتقد أن المواطن السعودي أو المواطنة غير مدركين لهذه الخيارات والتكلفة فقد استخف جدا بالعقلية التجارية السعودية، والرشد الاقتصادي المعروف عنهم، فكثير ممن يعملون في الأنشطة الاقتصادية يعرف أن مراقبة العامل الأجنبي لها تكلفة كبيرة جدا، وأن تركه في مقر العمل دون رقابة يعني تعرض الأصول للسرقة والاختلاس أو سوء الإدارة على أقل تقدير.
تكلفة الوكالة إذا هي كل الإجراءات المحاسبية التي تتطلب أجهزة تسجيل وإثبات المخزون وصيانتها، وهذه تتطلب وجود محاسب مدرب بشكل جيد وهو ذو راتب مرتفع عادة، كما تتطلب عديدا من الأجهزة والمعدات والمستودعات وعديدا أيضا من التقارير والمستندات ذات الطبيعية الرقابية، وفوق كل هذا مراجعا خارجيا وفي بعض المنشآت يتطلب الأمر مراجعا داخليا، كل هذه وغيرها ستلتهم الأرباح، كما أن الأمر يتطلب تحفيز العمال بمنحهم جزءا من الأرباح على شكل مكافآت، ذلك أنه لو تم تطبيق الإجراءات الرقابية كافة دون منح العمال جزءا من الأرباح فإنهم سيتهاونون في العمل ولا يهمهم الخسارة مع استقرار الراتب وغياب عنصر التحفيز وهذا كله مرصود وثابت علميا بالأدلة الموجودة في كتب الإدارة والمحاسبة كافة، والسؤال الآن للقارئ ولكل الأجهزة المعنية ولكل من يقول بمحاربة التستر، هل هناك من يستطيع تحمل هذه التكاليف كلها خاصة في المؤسسات الفردية الصغيرة أو المتناهية الصغر؟ لقد تعلم الناس بالخبرة أن التخلص من هذه التكاليف هو الأمر الصحيح، وذلك من خلال نقلها إلى العامل حيث يتم إعداد المحل وملحقاته كافة ومن ثم تأجيرها للعامل بما يتناسب مع مستوى الأرباح قبل خصم تكلفة الرقابة، هذا العائد هو الذي تسمونه التستر، وهو ليس كذلك، وليس خداعا للوطن وليس تلاعبا إنما معالجة اقتصادية لمشكلات مشهورة.
لكن مع كل ذلك فإنني أعترف بأن التهرب من الرقابة الذي يمارسه المواطن من خلال تأجير المحل للعمال، يتسبب في مخالفات جسيمة مثل التلاعب في الأسعار والغش التجاري، وهذه المشكلات المصاحبة لظاهرة نقل تكلفة الرقابة إلى العمال ظاهرة خطيرة، لكن لن يكون حلها بإعادة تحميل المواطن ثمن هذه المخالفات لأن ذلك سيشوه العلاقات الاقتصادية، بل يجب علينا أن نعمل على تحميل العامل الأجنبي هذه المخالفات وذلك من خلال إقناع وإجبار الطرفين على الإفصاح عن هذه العقود الإيجارية ودفع مصروفاتها الإدارية للدولة، وهذا يتم من خلال أمر بسيط، فإما أن يتحمل المواطن تكلفة الرقابة بإثبات وجود أجهزة محاسبة وسجلات محاسبية ومحاسب ومراجع خارجي وإما أن يفصح عن عقد الإيجار للعامل الأجنبي. وهذا ببساطة شديدة، وإذا ثبت أن هناك تلاعبا وغشا تجاريا تحمل المراجع الخارجي مع المواطن قيمة هذه المخالفات، أما إذا أفصح المواطن عن القيمة الإيجارية تحمل الزكاة وسلم من تكلفة الرقابة كما يتحمل العامل الأجنبي قيمة المخالفات وأيضا قيمة الضرائب.
وهكذا فإن المسألة برمتها تدور في فلك الإفصاح عن العقود الإيجارية، فإذا تم الإفصاح عنها من خلال منح المواطن فرصة التخلص من عبء التلاعب والغش التجاري ودفع الزكاة عن العقد الإيجاري فقط (هو ما يخفف عنه أعباء دفع الزكاة عن رأس المال العامل) وتم فرض الضرائب عن الدخل على العامل الأجنبي وبذلك ترتفع إيرادات الدولة من الزكاة ومن الضرائب، ونستطيع فعلا تحديد حجم العمالة في السوق ومن ثم رفع الضرائب على الأنشطة التي نريد إخراج العمال الأجانب منها من ذلك قطاع التجزئة، هذا هو الحل في نظري وليس من خلال مفهوم التستر الذي أثبت فشله تماما.
عن الاقتصادية