الآفاق المستقبلية لقطاع إدارة الثروات
تم النشر في الخميس 2021-06-24
أسفرت مرحلة كوفيد-19 عن تحوّل هائل في المنهجية التقليدية لإدارة الأصول، حيث لعب المستثمرون الأفراد دوراً محورياً في الأسواق في الآونة الأخيرة، وأسهم ظهور هذا الصنف الجديد من المستثمرين بأكثر من 20% من سوق الأسهم الأمريكية، في خطوة مهّدت الطريق لزيادة حجمها في مُختلف فئات الأصول.
ومن جانب آخر، أدّت زيادة الإقبال على الحلول الرقمية إلى نمو ضخم في أنشطة فتح حسابات الأصول المُدارة وأحجامها في أوساط المتداولين الإلكترونيين وشركات الاستشارات الرقمية.
وقُمنا في ساكسو بنك بفتح 240 ألف حساب مباشر خلال العام الماضي، وواصلنا هذا المسار التصاعدي في الربع الأول من عام 2021.
ويطرح هذا تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء التغيّر الدراماتيكي في السلوكيات التي يشهدها القطاع، ونشأة هؤلاء المستثمرين ودوافعهم للمشاركة في هذه المرحلة بالتحديد.
وبعبارة أوضح، يُمكننا اعتبار بدء اضطراب الأسواق بين شهري فبراير ومارس لعام 2020 اللحظة الفاصلة الناجمة عن بداية أزمة كوفيد-19، علماً أن ما تلاها من تقلب في الأسواق وخطط التحفيز المالي التي أقرّتها البنوك المركزية لم تُسهم سوى في تضخم أسعار الفائدة.
ومع ذلك، تبقى الصورة على أرض الواقع أكثر تعقيداً مع تراكم العوامل المحفزة منذ عدة أعوام ولغاية الآن، حيث أسهمت التطورات التكنولوجية إلى جانب التغيرات الديمغرافية والسلوكيات الاجتماعية في ظهور منهجية تمنح الأولوية للتوجهات الرقمية التي سُرعان ما اعتمدها جيل الألفية والأجيال اللاحقة. ومع ظهور الهواتف الذكية، بتنا نحمل جميعاً حاسوباً قوياً في جيوبنا. وهكذا، ساهمت التطورات التكنولوجية في قطاعنا بدورٍ محوري في تسهيل تطوير العديد من الحلول الفعّالة من الخدمات المصرفية المحمولة ومنصات الأصول الرقمية وتطبيقات الدفع وخدمات التمويل الشخصية، والتي تُسهم جميعها في تمكين المستثمرين المُحتملين وتوفير مجموعة من الوسائل الجديدة لإدارة الثروات.
وبلغ عدد الاستثمارات التي تمّت من خلال شركات الاستشارات الرقمية حاجز الـ 70.5 مليون عملية، في زيادة بمقدار خمسة أضعاف عمّا كانت عليه قبل ثلاثة أعوام، علماً أنّ التوقعات تُشير لإمكانية زيادة هذا الرقم إلى 147 مليون معاملة بحلول عام 2023.
ولا يُعزى هذا التغيّر التحويلي إلى التطورات التكنولوجية فقط، إذ استغلت المؤسسات الرائدة في مجال الخدمات المالية أوجه القصور التي يُعاني منها القطاع من أجل التحرك في هذا الصدد.
وتعليقاً على هذا الموضوع، قال السيد ميشيل فيراريو، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة ستاش أوي، منصة الثروات الرقمية التي تجاوزت قيمتها المليار دولار أمريكي من حيث الأصول المُدارة في أقل من أربعة أعوام: “أسّسنا شركتنا واضعين نُصب أعيننا التعامل مع التغييرات غير المسبوقة التي شهدها قطاع الثروات خلال الأعوام الأخيرة. كان قطاع الخدمات المالية بحد ذاته أحد أسباب التغيير، لا سيما مع التغاضي لأعوام طويلة عن إجراء أي تحسينات ملموسة في الخدمات مثل خفض رسومها أو تخصيصها أو حتى فسح المجال أمام الوصول إلى فئات الأصول العالمية. وما زال القطاع اليوم يُعاني من فجوة كبيرة وعجز عن تقديم الحلول. وتلمس الجهات الفاعلة العريقة وحديثة العهد في القطاع على حد سواء، وجود فرص كبيرة لرفع مستوى رضا العملاء، إذ أسهمت هذه الحقبة من التغيير في استقطاب المزيد من المستثمرين”.
ومن جهة أخرى، برز دور الروبوتات الاستشارية بشكل سريع للغاية، مع وجود حوالي 300 روبوت استشاري تقريباً حول العالم في الوقت الراهن، مع أصول مُدارة تصل قيمتها إلى تريليون دولار أمريكي.
وسيضطر العديد من البنوك العالمية والجهات الفاعلة في القطاع للتحرك سريعاً، لا سيما في ضوء ما تطرحه الروبوتات الاستشارية وغيرها من حلول التكنولوجيا المالية من منافسة حقيقية في الأسواق.
ويُلم العملاء الأفراد بالكثير من خصائص الحقبة الرقمية، حيث يسعون للاستثمار في المحفظات المتنوعة والمرجحة بالمخاطر، والتي لطالما ارتبطت بالأشخاص ذوي الملاءمة المالية العالية والمؤسسات الاستثمارية.
ويرى الكثير من البنوك والمؤسسات العريقة في التكنولوجيا الحل الأمثل بالنسبة لهم حالياً، إذ يمثل استخدامها بالشكل الصحيح أداة فعّالة تُساعد على تقديم الخدمات الرقمية المحسنة وتحقيق النتائج المعززة مقابل مقدار بسيط فقط من التكلفة والوقت.
كما سيمنحها الاستثمار في التكنولوجيا القدرة على توسيع عروضها والنهوض بسوية تجربة العميل التي تُقدمها. ومع ذلك، لا تُعتبر التكنولوجيا عصا سحرية في نهاية المطاف.
وبحسب فريدريك دي ميلكر، المدير العام للخدمات المصرفية للأفراد وأنشطة إدارة الثروات لدى بنك رأس الخيمة، أحد البنوك العشرة الأهم في المنطقة، ينبغي على الشركات أن تكون أكثر تركيزاً على العملاء، فضلاً عن اعتماد منهجية قائمة على الخدمة، والابتعاد تدريجياً عن النموذج القديم القائم على المنتج.
وفي هذا السياق، قال دي ميلكر: “آن أوان التخلص من النموذج الحالي، وهذا ما يحدث بالضبط، حيث تتمحور المسألة حول وقف الاعتماد على الوسيط. ويدفعنا هذا للتساؤل حول دور بعض المسؤولين كمدير العلاقات، الذي لا يقتصر عمله على عمل مسؤول مبيعات بل يتعداه إلى إدارة العلاقات مع العملاء، ما يؤكد أن الاستشارات المالية أكثر من مجرد بيع منتج ما. وتسعى
الجهات التنظيمية إلى دفع البنوك لإظهار قدر أكبر من الشفافية حول سياسات التسعير لديها، إذ يتضح أن النموذج الرقمي هو الأكثر ملاءمة لتحويل أنشطة الشركة من صيغة الثروة كمُنتج إلى صيغة الثروة كخدمة. ولن تكون البنوك قادرة على لعب أي دور في السوق في حال لم تتجه للقيام بهذا التحول”.
ويبدو أنّ العملاء يرغبون في التمتع بقدر أكبر من الاستقلالية في التصرف بأموالهم، لا سيما مع ارتفاع مستوى اختيار واعتماد المتداولين الإلكترونيين، ما يطرح السؤال حول نيتهم التخلي عن الاستشارات المالية لاعتماد المنصات الإلكترونية لما تتميز به من كفاءة في إدارة أموالهم تفوق كفاءة مستشاريهم المتخصصين.
وفي هذا الصدد، أضاف ميشيل فيراريو: “لمس العملاء وجود ضعف في أداء مستشاريهم في الأسواق على مدى العقدين الماضيين. ولا يخفى على أحد أن أداء الاستثمار النشط كان أضعف مقارنةً مع الاستثمار السلبي، حيث أدرك العميل النهائي بأنّ الأسواق شهدت نمواً ضئيلاً للغاية على مستوى القيمة. غير أنّنا نعيش في عصر الآراء المتعددة في ظلّ غزارة المعلومات المتوفرة عبر الإنترنت. فمن الطبيعي أن يُلم المشجعون برياضة كرة القدم أكثر من المدرب نفسه، ويصبح المرء طبيب نفسه، والأمر ذاته ينطبق على القطاع الاستثماري، لكن لا يتمتع الجميع بالخصال التي تجعلهم مستثمرين ناجحين بطبيعة الحال، حتى في حال توفر الأدوات والمعارف الكفيلة بتطوير أفضل محفظة ممكنة وأكثرها منطقية من حيث الجدول الزمني ومستوى المخاطر. ويتعيّن على القطاع التحرك إزاء ما يحدث ومساعدة الأشخاص على تحسين أدائهم، إذ لا بدّ أن نعزز من ذكائنا ومستويات كفاءتنا لتغيير التصور السائد وتقديم النصائح المناسبة”.
ومع ذلك، لا تبدو الصورة شديدة القتامة بالنسبة للبنوك التي تشهد تكوّن النظام الجديد، إذ تسنح أمامها فرصة حقيقية للابتكار في مجال تشكيل المحفظات وطرح خيارات المنتجات أمام العملاء في ضوء ما تمتلكه من رصيد هائل من البيانات الخاصة بالعملاء.
وأردف دي ميلكر: “تمتلك البنوك كميات هائلة من البيانات، حتى أنّها تتفوق على منصة فيسبوك في هذا المجال، وتحظى بفرصة الوصول إلى معلومات تتعلق بمقدار الدخل الشهري ومدى الإنفاق باستخدام بطاقات الائتمان وطبيعة الأنشطة الاجتماعية ومستواها. ولكنّها تُعاني في مجال إدارة البيانات. ورغم قدرتها على امتلاك المنصات والأنظمة المناسبة، فإنّها تواجه مشكلة في استقطاب المواهب المناسبة. ومن هذا المنطلق، قد لا يرغب المحللون القادرون على تحويل رصيد البيانات الهائل هذا إلى مخزون من البيانات المنظمة بشكل جيد بالعمل حالياً لدى أحد هذه البنوك التقليدية”.
ورغم التغيّر الذي يمر به السوق، سيشهد المستقبل مستوى أعلى من المنافسة مع حلول مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة وتعلم الآلة التي تشكل بيئة تمكينية لشركات التكنولوجيا المالية والروبوتات الاستشارية والبنوك الاستشرافية.
ومن المتوقع أن نشهد على مدى العقدين المقبلين أضخم عملية تحول تعيشها البشرية نحو السوق الرقمية بالكامل.
وستجد البنوك وشركات إدارة الثروات التقليدية الحاجة مُلحة للتحرك.
وبالاعتماد على هذا الرصيد القيّم من قواعد البيانات الخاصة بالعملاء، ما زال العديد من المؤسسات قادراً على الاستمرار والازدهار من خلال تقديم عروض إدارة الثروات كخدمة بدلاً من تقديمها كمنتج، إلى جانب الاستثمار في التكنولوجيا لتوسيع عروضها وتحسين تجربة العميل لديها.
ولا شك أن البعض سينجح في التطور من خلال اعتماد الحلول والخدمات الفعّالة التي تُقدمها الروبوتات وشركات التكنولوجيا المالية والمنصات الرقمية، بينما سيزدهر آخرون بالاعتماد على الشراكات والتعاون مع مزودي الخدمات التكنولوجية. ورغم أن قلة من الشركات ستتمكن من تجاهل الثورة الرقمية، إلا أنها ستُعاني لتتمكن من الاستمرار إذا لم تعتمد نهج الابتكار وتأخذ احتياجات عملائها المتغيرة بعين الاعتبار.